في الطريق الى صفاقس
جليل وادي
لم يكن الطريق الى مدينة صفاقس التونسية ممتعا ، بل جاء معاكسا للصورة الجميلة المرسومة في ذهني عن تونس الخضراء التي ظننت ان العمران فيها شامخا والتنقل بين مدنها مريحا ، فالقطار الذي يوصل الى صفاقس متهالك ويستغرق مسيره أربع ساعات ، ولا يملك التونسيون أجود منه ، وبمثل حاله كان المترو الذي يجوب أحياء العاصمة ، ومع ذلك أكد معارفي أن التنقل بالقطار أفضل من الباصات ، فعملت بنصيحتهم وتحملت على مضض ملل الطريق وطول الوقت ، فليس في الطريق من أشجار سوى أشجار الزيتون المترامية على مد البصر ، وفي أي محطة تقف وكأنك في المحطة التي قبلها ، مناطق متشابهة ، والحال هذا لا سبيل أمامك الا النوم ، فكيف لسائح يتعذر عليه النوم في السفر ؟ ورغبة عارمة في اكتشاف الجديد مع هاجس يراوده على الدوام بأن الفرص قد لا تكون سانحة لزيارة ثانية ، فيحاول تخزين ما تستوعبه ذاكرة مكتظة بصور المآسي وكل ما يريد نسيانه في جولة لأيام معدودات .
تسلل الاحباط الى نفسي مع أول خطوة لصعودي في القطار ، فما بلك عندما يجول بصرك بين ركاب بثياب رثة ، وشباب من الجنسين بوجوه متعبة ، وكبار سن دفعهم الحرص للف أجهزة الموبايل القديمة بمناديل من قماش؟ فأشحت بوجهي مقهورا ، وكيف لا يُقهر من قَدِمَ من اسطنبول المفعمة بالحياة والالوان وهو يقارن بين حالين ؟ كبحت تداعياتي الصورية التي تداخلت معها صور بغداد التي ما ان ذكرتها في مكان الا وايماءات التبجيل ترتسم على المحيا ، فأزداد ثقة بالنفس وبهجة في الروح .
لم يكن القطار سريعا ، ما يتيح لراكبه قراءة الشعارات السياسية التي خطت بكثافة على جدران البنيات التي نمر بها بين الحين والآخر ، وقد وجدت فيها ملهاة للتخلص من الملل والتطلع بوجوه الركاب ، فالثورة التونسية التي استهل بها الربيع المشؤوم لم يمض عليها سوى أقل من سنة ، وحرب الجدران على أشدها ، وان جُلها تذهب باتجاه الدولة المدنية ، وابعاد المؤسسة الدينية عن المجال السياسي ، والحرص على الحريات ، فأدركت ان للتونسيين وعيا سياسيا متبلورا ، وتعزز ذلك عندما جمعتني الفسحة المكانية بين العربات التي يُسمح فيها للركاب بالتدخين ، بشخص طلب قداحة ليشعل سيكارته ، فاستثمرت ذلك لأتزود ببعض المعلومات عن صفاقس ، فاكتشفت فيه ثقافة رصينة ومعلومات غزيرة حتى انه يعرف عن بلادنا ما لا يعرفه كثير من العراقيين ، فسألته عن عمله وتحصيله الدراسي ، فتبين انه خريج الدراسة المتوسطة ويعمل عريفا في الجيش ، قلت لنفسي قد يكون أمره مصادفة ، وللوقوف على ثقافة المجتمع صرت أتحين الفرص للقاء آخرين ، ومن بينهم طالب جامعي أبهرني ، هنا اتساءل : ماذا يعني ان يكون المضمون السياسي الذي تداوله التونسيون مبكرا لم ندرك فحواه في العراق الا بعد أكثر من عقد ؟ وصرنا نخاتل بالذي استوعبنا درسه بين الصمت والتلميح ، بل والخنوع حتى للذي يعود بالمجتمع الى عصور الجاهلية ، وبعد ان اكتوينا بالنيران ، صرنا ننظم التظاهرات ونعقد الندوات ، وتتعالى اصواتنا في الاعلام ، ومع هذا الصراخ الصاخب لم نتجرأ على مس الموضوعات التي تثير حساسية بعض المؤسسات .
لم يقتصر الجهل ببعض القضايا وفقدان الشجاعة واللامبالاة ازاء ماهو حاسم ومفصلي في حياتنا السياسية والاجتماعية على المجتمع فحسب ، بل شمل الاحزاب والمؤسسات والمنظمات المختلفة ، وهذا يعني : نجاح المدرسة التونسية وفشل العراقية في البناء السليم للمجتمع بالرغم من فقر بلادهم وثراء بلادنا ، فضلا عن التخلف وقصر النظر الواضح وتغليب المصالح الضيقة وانعدام الخبرة للقوى المتصدية للعملية السياسية ، وتراجع دور النخبة وبخاصة الاكاديمية منها والتي تدعي انها الأكثر تنورا ، وطليعة الشرائح الاجتماعية التي تتمثل مسؤولياتها في نقل المجتمع الى المستقبل ، ومحاربة تلك التي تريد العودة به الى الخلف ، هذه الأسباب هي التي مكنت التونسيين من عبور المحنة ، بينما وقعنا كالعميان في شراكها .