ا.م.د. يسرى عبد الوهاب محمود
ازمة الخيال في التربية الفنية
ما ان انتهت اختبارات نهاية العام الدراسي للسنة الثالثة حتى جلس (سمير) وزملائه وسط الرواق الكبير ,تظللهم شجرة السدر القديمة التي طالما اظلت الكثير قبلهم وكانت شاهدة على مناقشاتهم المحتدمة حول احلامهم ومتاعبهم ومخاوفهم وتداعيات افكارهم , لكنهم اليوم لم يجلسوا ليتداولوا حول اي مما سبق , بل جمعتهم حيرة في امر واحد فقط , وهو ماذا سيفعلون العام القادم في مشاريع تخرجهم التي لابد لهم من انجازها والاتيان بفكرة تصلح لذلك ,الامر الذي سبق ان سبب لمن سبقهم الكثير من القلق والارق والحيرة التي يتشاركون بها الان ,وتداعت افكارهم في نواحي متعددة كان لي نصيب ان اسمعها منهم , ولم تكن في نهاية الامر الا عبارة عن انهم سيبحثون عن اعمال فنية معروضة من قبل ولن يكون عليهم سوى تقليدها او نسخها , وهنا سمحت لنفسي ان اتسأل وكلمة (لماذا ) ما برحت تراودني , لماذا عجز (سمير) وزملائه عن التفكير في تشكيل عمل فني واحد وليس اكثر من ذلك ؟
فهم على وشك اكمال تعليمهم العالي الذي يفترض به ان ينمي قدرات التفكير العليا لديهم كالتخيل والتصور والابداع والابتكار , التعليم الذي يهدف الى صنع قادة يزج بهم في زحام معترك الحياة ليكونوا قادرين على مواجهة تطوراتها المتسارعة
فالازمة الحقيقة اذا هي انتاج فكرة , ف(سمير) وزملائه ليسوا قادرين على التخيل اذا اليس من السهل على المرء ان يتخيل ( الخيال ) تلك القدرة العقلية التي يتمتع بها جميع الناس ,والتي تقوم على تركيب الخبرات السابقة في تنظيمات جديدة لم تكن قد مرت على الفرد من قبل , اعتمادا منه على التذكر في استرجاع الماضي بعين مرتبطة بالحاضر متطلعة الى المستقبل, كما قال الفلاسفة واقر المنظرون .
فهو نشاط عقلي تحدث من خلاله عمليات دمج وتركيب من مكونات الذاكرة والادراك والصور العقلية التي تشكلت من قبل ,من خلال الخبرات الماضية ونواتج ذلك تكوينات واشكال عقلية جديدة .
وتسهم التربية الفنية اسهاما فعليا في تطبيق ذلك , فهي تعمل على تنمية الاستعدادات العقلية للمتعلم وتوجيه تفكيره نحو التنظيم والابتكار والابداع , فهي وسيلة من وسائل العلم الحديث لتكامل القدرات العقلية وتطويرها وتنشيطها لجعل المتعلم قادرا على التعبير الدقيق من خلال خامات والوان وخطوط واشكال, وتعمل على بناء شخصيته بشكل متكامل من خلال قوام معرفي مختلف ومتنوع , مما يتيح له مجالا للاندماج في الممارسات الابتكارية التي يقوم بها ,ذلك الاندماج الذي يفعل فعله في نموهم الذاتي الذي ينعكس على سلوكهم العام .
وهنا يمكن القول ان المتعلم في ميدان التربية الفنية هو شخص توافرت له جميع امكانيات الابداع والابتكار, فممارسته للفنون المختلفة يتطلب منه قوة الملاحظة والتذكر والتخيل والفهم والادراك .
والخيال يكون على انواع, منه الخيال الناجم عن الذاكرة، ولا يتطلب ذلك اكثر من عميلة استرجاع الصور المخزنة في ذاكرة المتعلم لإعادة انتاجها , وقد يكون ابسط انواع الخيال ويستخدم لتدريب المبتدئين على مهارة معينة (الرسم كمثال) . ومنه ما يسمى بأحلام اليقظة، هي ما يقوم الإنسان بتصوره في عقله والذي يكون بعيداً كل البعد عن الواقع، فهي عبارة عن آمال وأمنيات لم تتحقّق بعد، ومن الممكن توظيفه في تدريب المتعلمين على موضوع الانشاء والتأليف , فيطلب منهم كمثال على ذلك ان يرسموا احلامهم في ما سيكون عليه الغد او السنة القادمة او حالهم بعد حصولهم على وظيفة معينة, ومنه ما يسمى (بخيال الطيف)، حيث يستطيع الإنسان استذكار المشاهد المعقّدة التي قام برؤيتها مسبقاً بكل تفاصيلها وكأنها أمامه، وهذه القدرة تمكّن الطلبة على استذكار المعلومات التي قاموا بدراستها مسبقاً من خلال استرجاع الصفحات والمعلومات المتضمنة فيها بعقولهم , ويمكن استخدامه كتمرين لذاكرة المتعلم , كأن يطلب منه زيارة معلم او اثر حضاري او ماشابه ويطلب منه نقل ما رآه عن ذلك المكان وكأننا نطلب منه ان يتحول الى آلة تصوير فوتغرافي . ومنه التخيل التأليفي والإبداعي، بحيث يستخدم الإنسان كافة حواسه لكي يقوم بإنتاج العديد من الأفكار الإبداعية، كالتأليف والكتابة والانشاء التصويري, وهنا قد يتسأل البعض لماذا لا نطلب منه خيالا ابداعيا في مراحل مبكرة من تعلمه المهاري , وهذا يرجعنا الى ما ابتدأنا به من ان الخيال هو تراكيب صورية تعتمد على خبرات ماضية وتطلعات مستقبلية فلكي يصل المتعلم الى قدرة الانشاء الكتابي او الصوري فهو بحاجة الى ذاكرة صورية ومفردات لغوية يتم توظيفها لاحقا في العملية الابداعية , وعند ذكرنا ان المتعلم في مجال التربية الفنية هو شخص اتيحت له كل فرص الابداع , فاننا نشير بذلك الى مواد مهمة جدا يتم تعلمها وهي (فن كتابة المسرحية والانشاء التصويري) فهي مواد تعتمد الخيال كخامة مهمة لها , وليست الاثنتان سوى كل واحد بشكلين مختلفين, فالاولى تعتمد المفردات اللغوية كاساس لها بينما تعتمد الثانية المفردات الصورية , وكلاهما تعتمدان الخيال الابداعي .
وللتفصيل أكثر فان المتعلم في مجال التربية الفنية يتعلم مهارة (التخطيط) مثلا , في السنة الاولى وتكون تدريباته عبارة عن نقل صور مرئية ,حية او جامدة ,
اما في السنة الثانية ونفترض هنا انه تكونت لديه مهارة التخطيط , فيتم تدريبه على مهارة (التلوين) ومهارة تحليل الالوان وابتكارها في تكوينات جديدة , وبذلك يتدرب المتعلم على اول انواع الخيال واضاف مفردات الى ذاكرته الصورية وبتجاربه اللونية يكون قد اختزن طبيعة اللون وشدته ونقاوته كصوره عقلية ,تمهيدا لخوضه اهم تجربه يواجهها اثناء تدريبه المهاري (الانشاء التصويري) الذي يعمل على توظيف ما سبق التدريب عليه وتخزينه الى تكوين جديد نلمس من خلاله بوادر الابداع , تمهيدا لانشاء فكرة ابداعية تصلح مشروعا لتخرجه في السنة النهائية , والتي عند الوصول اليها يفترض ان يكون المتعلم قد مر بكل مراحل التدريب لخياله الابداعي فيطلب منه توظيف ما سبق من مهارات ومخزونات صورية في تكوين جديد يتصف بالابداع , فالسنة النهائية ليست بسنة تدريب انما هي في الواقع سنة تجريب وتوظيف لخبرات سبقت .
فالخيال جزء مهم من العملية التعليمية , واحد اركانها الاساسية التي تقوم عليها وربما يتساءل البعض عن اهمية تدريب المعلم على مهارة الخيال , لانه ببساطة سيمارس مهنة التعليم لمادة التربية الفنية ,التي يكون من ضمن اهدافها الاساسية تنشيط عنصري الخيال والتذكر لدى التلاميذ , وترقية عقولهم من خلال الابداع الصوري.
وكما يقول (آينشتاين, الخيال اهم من المعرفة )
فاذا لم يكن (سمير) وزملاؤه قادرين على الاتيان بفكرة خيالية ابداعية واحدة تصلح ان تكون مشروعا لتخرجهم , فكيف يمكن لهم بالتالي وعند ممارسة مهنة التعليم ان ينشئوا جيلا مبدعا مفكرا مبتكرا يواجه تيار الابتكار المتسارع في العالم ,كما نريد وتريد العملية التربوية بأكملها له ان يكون ,وكيف يدربهم على الخيال وهو غير قادر على التخيل , فاذا كان (سمير) هو معلم الغد فلنا الان ان نتخيل بدورنا شكل ذلك الغد…
فالخيال هو نظير الابداع ولا ابداع من دون خيال , واي تعليم يخلو من اثارة للتخيل فهو تعليم يحتاج الى اعادة النظر فيه…