الوظيفة الاتصالية للدولة .. المراوحة في المكان
أ.د جليل وادي
ان تتمكن جهات محلية ودولية معادية للدولة في كسب الانصار ، فذلك يشير في جانب كبير منه الى ضعف او فشل الوظيفة الاتصالية التي تقوم بها الدولة ازاء المجتمع ، بخاصة وان هذه الوظيفة تعد من بين ابرز الوظائف التي يفترض ان تنهض بها اذا ما ارادت ان يكون لها وزن اقليمي او دولي ،فالتماسك الاجتماعي الذي من نتائجه صلادة الوحدة الوطنية يشكل اول الاوزان التي تتيح للدولة تحقيق المكاسب في المساومات التي تجري اثناء عمليات التفاوض او الازمات او الصراعات ، بينما هشاشة الوحدة الوطنية يتيح للقوى المناوئة النفاذ الى عمق المجتمع وتفتيته عبر مختلف العمليات الاتصالية الجماهيرية منها والمباشرة ، من هذا المنطلق تكتسب الوظيفة الاتصالية للدولة اهميتها .
وقد كشفت تجربة السنوات الماضية ان هذه القوى تمكنت من الاستحواذ على مساحة لايستهان بها من المجتمع وتحشيدها والارتقاء بأداءها حتى وصل الى مستوى ان تتمكن من احتلال مدن كبيرة ، بينما ظلت الدولة تراوح في مكانها من دون ان تطور في ادواتها لمواجهة هذه القوى ، واستسلمت للحلول العسكرية في هذه المواجهة دون ان تفعل الادوات الاخرى بالقدر الكافي . ويثير هذا الضعف العديد من الاسئلة التي تتطلب الاجابة عليها مراجعة العمليات الاتصالية التي تقوم بها الدولة .
وفي هذا الاطار لابد من الاشارة الى ان وسائل الاعلام تشكل اهم الادوات التي تستعين بها الدول في تحقيق الاقناع بمشاريعها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، بالشكل الذي يجعل المجتمع نابذا للمشاريع الوافدة اليه من جهات اجنبية ، او المشاريع المحلية التي يراد بها افشال المشاريع الوطنية ، كتلك التي تعمل على اشاعة الفكر المتطرف او التي تعلي من شأن ثقافات فرعية على حساب الولاء الوطني كما هو حاصل في بلادنا .
ومع ان للاعلام ادواره المعروفة على الصعيد الاجتماعي والسياسي ، الا ان الاعلام العراقي لم يتمكن من مساندة الدولة في تعزيز مشروعها الديمقراطي واشاعة الثقافة المرنة والمعتدلة والمستنيرة التي يقتضيها المشروع الديمقراطي ، ذلك ان الفضاء الديمقراطي يقوم بالاصل على مبدأ المواطنة بوصفها جوهر المضمون الديمقراطي ، وفي مثل هذا الحال لايمكن ان تنتعش المواطنة في اجواء مشبعة بالولاءات الفرعية المتعالية على الولاء الوطني ، والسؤال الابرز هو لماذا لم يتمكن الاعلام من اداء هذه الادوار على الرغم من عمر التجربة السياسية الجديدة التي بلغت اكثر من عقد من الزمان ، فضلا عما حققته هذه التجربة من فرص كبيرة سنحت للاعلام ان يكون تعدديا ، وخلصته من عمليات الرقابة بمختلف اشكالها .
ان الوظيفة الاتصالية للدولة تفترض اعلاما فاعلا لكي يكون مؤثرا ، والتأثير هنا يعني ان يكون مقنعا ، بمعنى اخر ان يؤسس لاتجاهات ايجابية راسخة بمشروع الدولة ، وان يعدل الاتجاهات التي لاتتوافق مع هذا المشروع ، فضلا عن التصدي للاتجاهات السلبية ، ومثل هذه المهمة بالرغم من انها مسؤولية جميع وسائل الاعلام على اختلاف مشاربها ، الا انها بالدرجة الاساس تقع على عاتق اعلام الدولة ، اي الاعلام المتعارف عليه خطأ بالاعلام الحكومي ، اذ يتعذر على الدولة اجبار الوسائل التي لاتتلقى تمويلا منها على القيام بألادوار التي تتطلع اليها ، كما انه ليس بالضرورة ان تكون الجهات التي تقف وراء الوسائل الاعلامية الحزبية او المستقلة تتوافق مع الحكومة في مشاريعها او الاهداف التي تبغي تحقيقها على اقل تقدير ، بل في احيان كثيرة يقوم ذلك الاعلام بعمليات اقناعية معارضة ، ويبقى النجاح مرهون بمدى ثراء الوسيلة الاعلامية .
وعلى هذا فان القيام بالوظيفة الاتصالية للدولة ترتبط بأعلام الدولة ذاتها ، والافتراض يذهب الى ان هذا الاعلام يجب ان يكون فاعلا ليتمكن من الحصول على اكبر مساحة تعرض من الجمهور ، بخاصة انه يعمل في اجواء من المنافسة الشديدة مع وسائل اعلامية محلية واقليمية ودولية ، اذ تشكل الساحة العراقية مثار اهتمام العديد من الجهات التي رصدت اموالا طائلة لاطلاق وسائل اعلامية مرئية وسمعية ومقروءة للعمل فيها، بما في ذلك الوسائل الاعلامية الدولية الناطقة بالعربية .
وهنا يطرح السؤال الاتي : هل كان اعلام الدولة فاعلا ؟ ان معطيات الواقع على صعيد العمل الاعلامي تجيب عن حدود فاعلية هذا الاعلام ، ومن تلك المعطيات ان صورة ذهنية سلبية قد تشكلت وبحدود كبيرة في ذهن الجمهور عن العملية السياسية الجارية ، كما انه لم يتمكن من ان يكون فاعلا في الوسط الجماهيري الذي تعمل فيه القوى المناوئة للعملية السياسية ، بدلالة ان قوى الارهاب وجدت فراغا اعلاميا تمكنت من استثماره بكفاءة في اقناع شريحة واسعة من الشباب بفكرها المتطرف عبر عمليات اقناعية منها ما كان عبر وسائل اعلامية جماهيرية ، اي ان تلك العمليات لم تكن جميعها مستندة الى الاتصال المواجهي ، بل وتعبئتها عسكريا لمقاتلة الدولة والاستعداد للموت . ويتطلب ذلك مراجعة حركة هذا الاعلام للوقوف على الاسباب التي جعلته غير قادر كما ينبغي لحماية العملية السياسية من خلال حشد المجتمع للالتفاف حول هذه العملية من خلال الاقتناع بها .
ان المسؤولية الوطنية تحتم القول ان خللا بنيويا يعانيه الاعلام العراقي على مستوى عناصره وادائه ومنطلقاته التي يستند اليها ، اذ لم يتضح مضمون معين يعتمد كمرجعية فكرية يحتاجها الاعلام للانطلاق في عمله ، وباستثناء المضمون السياسي يكاد المضمون الثقافي والاجتماعي والاقتصادي غير محدد الملامح ، ما جعل القائم بالاتصال يتخبط في بناء مضامين رسائله غير السياسية ، ويندرج المضمون الديني في اطار المضمون الثقافي ، ويفترض ايلاء هذا الجانب اهمية استثنائية لاعتبار ان الجهات المناوئة للدولة تعتمد في عملياتها الاتصالية على المضمون الديني الذي لايقتضي جهدا كبيرا لتحقيق العمليات الاقناعية ، ذلك ان الافراد يتوافرون على استعدادات مسبقة للاقتناع بهذا المضمون ، ولذلك جرى التعكز عليه لتحقيق الاهداف السياسية ، وغالبا ما تستعين المنظمات والدول بالمضمون الديني في اثناء الصراعات ، وحتى هذا المضمون لم يتمكن الاعلام الحكومي من توظيفه بكفاءة في اساليب التصدي للاعلام المعادي ، ولم تكن التعبئة الجماهيرية لتحدث بمثل هذا المستوى بعد سقوط الموصل والانبار وصلاح الدين لولا فتاوى الجهاد التي اطلقتها المرجعيات الدينية .
من ذلك نستنتج ان وسائل اعلام الدولة لم تكن ثرية ، بمعنى ان الجمهور لم يجد فيها التفسيرات التي يحتاجها لتبديد الغموض الذي يعانيه جراء المواقف والحوادث المتناقضة التي تحيط به ، وطالما هي كذلك فأن مقبوليتها وبالتالي مصداقيتها بالنسبة له تكون ضئيلة ، الامر الذي يدفعه للتعرض الى وسائل اخرى من بين الخيارات الاعلامية الواسعة المتاحة امامه .
ان تحقيق الاقناع الذي له اساليب واستراتيجيات وتكتيكات لا يتحقق بالعمل الكيفي ، وانما يتطلب ملاكات بشرية مؤهلة قادرة على بناء الرسالة الاقناعية بكفاءة لتحدث التأثيرات المطلوبة والتي تتمثل في تشكيل صورة ذهنية ايجابية عن المشروع الوطني الديمقراطي ، وتشكيل وعي وطني مستنير ، وبلورة رأي عام واسع ازاء الثوابت الوطنية.
ان هذه الاهداف التي تشكل حاجة ماسة في هذا الظرف العصيب التي تمر به البلاد ، يستدعي مراجعة الحركة الاعلامية واعادة صياغتها على وفق الاشتراطات العلمية ، وبعكسه سيظل التخبط ديدن العمل الاعلامي ، ما يمنح القوى المعادية فرص النجاح في سياسة القضم التي تمارسها على الارض والجمهور على حد سواء .