أ.د أبراهيم نعمة محمود
التلفزيون و حوار الثقافات
ينال التلفزيون الان مرتبة متقدمة في عدد المشاهدين و المتابعين لبرامجه على مدار الساعة , اكثر من باقي قنوات الاتصال الاخرى مثل الاذاعة و السينما و الانترنت و الوسائل المقروءة , و اضمحل دور الصحف و المجلات و الكتب بعد ان كانت هذه الوسائل هي الاقرب للمتلقي , و يبني على ضوئها منهجه الثقافي و توجهه الفكري . فالأنسان كائن يميل للاطلاع و حب المعرفة , فالطفل يتأثر بأسرته كمكون تربوي ثقافي اولى , حتى يحين له الذهاب الى المدرسة , و الاختلاط بأصدقاء يحملون في جعبتهم اتجاهات ثقافيه متنوعة , و على الارجح مغايرة , و بين الاسرة و المدرسة يكون الطفل قد اخذ الجزء اليسير من المعرفة , و لكن حين يعرف و يتعرض للأعلام و ينخرط في المشاهدة طوال اليوم , تكون فترة مشاهدة تلك اليوم للتلفاز على سبيل المثال هي الاكثر , في هذه الفترة بالذات يكتسب معارفه و عاداته بشكل كامل منها ( لذا يكون تأثير الاعلام على مداركه اكبر من كل الوسائل التقليدية الاخرى لأمور تتعلق بفترة المشاهدة و عملية التعرض ذاتها كمصدر اساسي للمعلومات و بظروف التلفزيون و شروطه القائمة على الصورة و الصوت و التقنيات المغرية الاخرى ) . جميع هذه الامور تؤثر على اكتسابه للمعرفة و قذ تؤدي الى تغير الاتجاهات لدى المتلقي و سلوكه . و اهتمت بعض النظريات الاعلام بدراسة تأثير وسائل الاتصال على المتلقي و منها نظرية ( التثقيف الاعلامي ) , التي تركز على التأثيرات البعيدة لوسائل الاعلام و لا سيما في اقناع مجتمع معين بمعتقدات معية و بطريقة غير مباشرة . نظرية الغرس الثقافي , التي تعتبر الاسهام المستقل و المحدد الذي يساهم به التلفزيون في عمليتي ( التنشئة الاجتماعية و التثقيف , و تبحث النظرية في التأثير التراكمي للتلفزيون ) ,و بالرغم من ان البرامج التلفزيونية تتناول مواضيع شتى و تعالجها بأساليب مختلفة الا انها لا تقدم للثقافة ما يميزها و تساهم في زيادة نسبة التسطح الثقافي , لان الكتاب و النظرية هي المصدر الاساسي للثقافة , و ما تقدمه هذه البرامج لا يتناول المشكلة من كل جوانبها و انما يحاول الايجاز و الاختصار و ربما يغير بعض الحقائق في سبيل زيادة المتعة و التشويق , كما هو الحال في الافلام و البرامج الاخبارية التي تناولت موضوع نهاية العالم فقد بثت بعض القنوات خبر مفاده ان كوكب كبير سيصطدم بالأرض نهاية عام(2012) و سيحدث يوم القيامة و تنتهي الحياة على كوكب الارض ( قناة الشرقية – برنامج ظهيرة الجمعة 172011) و الحقيقة ان المؤثرات العلمية تعطي بعض النتائج مخالفة لهذا الخبر الذي يطمح من ورائه بعض المنتجين تمرير معلومات غير صحيحة بهدف الربح . و تخويف الناس . و كذلك بالنسبة للدراما السياسية , فبالرغم من القيود الكبيرة المفروضة على انتاج دراما سياسية , الا ان بعض المنتجين استطاعوا ان يقدموا هكذا نوع من المسلسلات مثل الباشا , و اماكن في القلب , و نور الصباح و احلام في البوابة , المرسى و البحار , التي قدمت جميعها عام 2011 , و لو نظرنا الى مسلسل (( اماكن في القلب )) الذي كاتبه بشير الديك الذي يتناول حياة العرب و المسلمين في امريكا بعد احداث 11- ايلول –سبتمبر فقد ركز المسلسل على التعامل العنصري ضد العرب , و محاولة اقصائهم و تهميشهم داخل المجتمع الامريكي و لكن صانعي هذا المسلسل لم يجازفوا بالغور في اعماق هذا الصراع و اكتفى المؤلف بالاشارة الى ان وجهة نظر الامريكان تغيرت نحو العرب بعد هذه الاحداث . و نلاحظ من خلال البرامج المقدمة عبر الفضائيات العربية ان دور المثقف العربي اصبح هامشيا و غير مؤثر ( و سادت ثقافة جديدة مليئة بالصخب و العنف و الرذيلة و الابتعاد عن هموم الناس و مشاكلهم و خاصة في برامج الدرامية و المنوعات ), و هذا التردي يتحمله المسئولون او القائمين على هذه الفضائيات . فقد تحولت هذ الفضائيات الى سوق احتكار . بيد اصحاب الاموال (ولم تهتم باي شكل من الاشكال بالمعرفة و الثقافة و المتعة و الجمالية , التي يجب ان تصل الى المشاهدين و مبدا الربح الذي يحكمها تحول الى هوس الابتكار و تقليد كل ماهو حسي يحرك العواطف و الغرائز و المتعة على حساب الفكر المعرفة و الجانب الروحية ) ,و اصبحت هذه البرامج و المسلسلات لاتحمل الهوية العربية بل تحمل غطاءا مهلهلا و هوية ممزقة لاتمت للعروبة الا بالشكل و هذه الثقافة الدخيلة على المجتمع العربي لها اسباب اخرى عدا الربح المنتجين . منها طبيعة الوضع الداخلي للدول العربية و انحسار الديمقراطيات و القمع و الامية و الفساد الاقتصادي و السياسي , ( و ظهور الصراع بين الاقليات و الاثنيات , و الطائفية و الفقر , و العالم الذي يحاول السيطرة علينا من خلال العولمة و القيم المادية التي تسعى لكسب المال على حساب القم الاخلاقية و الروحية ) و اصبح المثقف العربي يتخبط وسط هذه الدوامة من الصراع الذي لا ينتهي فهل يكتب للمجتمع ما يعانيه ام يكتب للطائفة التي ينتمي لها ام يكتب لارضاء الحاكم ام يكتب حسب توجيهات صاحب راس المال ليحصل على لقمة العيش , اسئلة كثيرة لاتجد اجابة وربما تكون الاجابة صعبة و مخجلة احيانا .. و يبقى المشاهد للبرامج التلفزيونية الفضائية يتخبط وسط هذا الكم الهائل من ساعات البث الفضائي . و ان هذه الانتكاسات و الازمات التي يعيشها الشعب العربي , ولدت نوعا من الهزيمة و الانكسار خاصة في نفوس الشباب , و اصبح اغلبهم بلا هدف فالبرامج الدرامية ابتعدت كثيرا عن القيم العربية و الاسلامية و البرامج الدينية تتقاطع في الاتجاه و المنهج بين القنوات و كذلك الاخبار و البرامج السياسية و حتى البرامج الرياضية التي شعارها الحب و الطاعة و الاحترام اصبحت مسيسة و دخلها الصراع و التخريب و انقسم جمهورها الى مؤيد و معارض . و ربما ستنقل هذه العدوى الى البرامج العلمية و الدروس التعليمة و ان هذا التشتت الفكري و الثقافي سينعكس حتما على المتلقي العربي و منهم طلبة الجامعات الذي هم قادة المستقبل ,و بدانا نلمس هذا التشتت في الاتجاهات و تفرق الجماعات من خلال متابعة مستويات الطلبة العلمية و طبيعية سلوكهم داخل و خارج الكليات . و طبيعة علاقتهم مع بعظهم البعض . ولا نلقي اللوم الكامل على القنوات الفضائية . لان اغلب البرامج و الافكار التي تقدمها هي نتاج فكري لثقافة هذا المجتمع الجديد الذي يبتعد كثيرا عن الكتب و المصادر الجيدة و اتجه الى ثقافة الصورة و الصوت التي تصنع بطريقة مشوقة . لكن المضمون ضعيف و مهلهل و بالنتيجة ستنعكس هذه المضامين على المستوى الفكري والثقافي للمشاهدين و خاصة الاطفال و المراهقين و قد لا نلمس هذا التغيير الثقافي الا بعد فترة . و قد يصعب معالجة الامور بعد فوات الاوان .