الاشكالات الثقافية للتعددية الاعلامية

 

أ.د جليل وادي

بالرغم من تعدد وكالات التنشئة الاجتماعية والثقافية المسؤولة عن تشكيل الثقافة الوطنية التي تعد البنية التحتية اللازمة لتحقيق اندماج اجتماعي تحتاجه المجتمعات والدول في التصدي للتحديات التي تعترض سبيلها او للانطلاق في مشروعاتها الوطنية على اختلافها التي تستهدف منها مواكبة ما وصل اليه العالم ، الا ان تجارب الدول حديثة العهد بالتجربة الديمقراطية والتي تأتي التعددية الاعلامية ابرز مظاهرها ، كشفت عن حجم التناقضات التي وقع فيها حراك تلك الوكالات في اطار المشروع الثقافي ، والنتائج الكارثية التي تمخضت عنها تلك التجربة والتي جاء بعضها على هامش مجريات العمل من دون ان تكون هناك رؤية استشرافية لما تفرزه تلك التجربة من معطيات في المستقبل المنظور على اقل تقدير .ومن بين الاشكالات الثقافية التي انتجتها التعددية الاعلامية مايأتي :

اولا ــ تفعيل انماط ثقافية فرعية

لقد تمكنت العولمة بما تسلحت به من تقنيات اتصالية وتواصلية من انتهاك سيادة الدول ، وغدت معه تلك الدول عاجزة تماما عن مقاومة تلك الانتهاكات التي تمظهرت بمواقع اعلامية وشبكات تواصل اجتماعي ومواقع رسمية وشخصية ، فضلا عن فضاء اذاعي وتلفزيوني مفتوح ، ما جعل من التعددية الاعلامية واقعا لايمكن الافكاك منه ، وليس هناك من سبيل الا التكيف معه ، بل وفي الغالب الخضوع له وكأن ذلك الخضوع جاء بالنسبة لبعض الدول ايمانا بالتعددية ، فمنها من شرع القوانين واتخذ الاجراءات التي تسمح بتعددية اعلامية وسياسية  دون ان تتزامن معها اجراءات سياسية وقانونية من شأنها استثمار تلك التعددية في مشروع الثقافة الوطنية الذي يمكن في حال تبنيه ورسوخه في المجتمع التصدي للجوانب السلبية التي تنطوي عليها العولمة بالنسبة للدول النامية كالخصوصية الثقافية وحماية مشاريع التنمية الاقتصادية ، وتعزيز الشخصية الوطنية .

لقد قادت التعددية الى تفعيل انماط ثقافية فرعية كانت نائمة ابان هيمنة الاعلام الوطني ، والاستناد الى نظام  تربوي وتعليمي متوافقا مع ايديولوجية انظمة ما قبل العولمة ، وبالرغم من تجذر تلك الانماط في المجتمعات ، الا ان تشدد الانظمة السياسية ازاء نظامها التربوي والتعليمي وملكيتها لوسائل الاعلام حالت من دون ان تتعالى تلك الانماط على منظومة الثقافة الوطنية التي تريدها ، لكن التغيرات السياسية التي حصلت في بعض البلدان ومنها العراق ، وانهيار الهيمنة الاعلامية الشمولية ، وتبدل المضامين التربوي ،ادى الى تفعيل تلك الانماط ، وبغياب الكوابح انطلقت حالات التعالي حتى غدت ظاهرة ، وزاد من تعاليها ارتفاع نسبة التخلف في هذه البلدان التي تكشفت بعد تغيير تلك الانظمة التي لم تتمكن من بناء منظومة تعليمية متماسكة لاسباب عديدة منها ما يتعلق بأليات عمل تلك المنظومة، وانغلاقها على ذاتها ، ومنها ما يرتبط بمجموعة الازمات السياسية والاقتصادية المحلية والدولية التي مرت بها تلك الدول ، والمحصلة التي تمخضت عن ذلك تمثل في عدم توافر حصيلة علمية ومعرفية تؤهل شرائح لايستهان بها من المجتمع للتعايش الواعي مع النظام الديمقراطي بما في ذلك معرفة تداعيات اعلاء شأن الانماط الثقافية الفرعية على حساب الثقافة الوطنية .

كما ان من بين الاسباب ما تجسد في غياب الاطار الوطني للعمل الاعلامي ،اذ عملت وسائل الاعلام التي مثلت كل واحدة منها تكوينا اجتماعيا من بين التكوينات العديدة التي تتكون منها البلدان العربية بضمنها العراق ، ذلك ان قلة الخبرة السياسية وافتقاد المهارات الادارية للفاعل السياسي الذي وضع في دوائر مهمة لصنع القرار من دون ان يتأهل لها ، انتج ارباكا سياسيا شديد ا، تعزز حين احيط بمجموعة الازمات المتعددة الاشكال ، ما افقده القدرة الكافية لادراك العملية السياسية الجديدة، فظل متخبطا متحسبا ، وبالمحصلة تبنيه لاليات سياسية بدت له مناسبة لكنه لم يعرف ابعادها على العملية السياسية وتأثيراتها الاجتماعية ، الامر الذي لم يتمكن معه من صياغة رؤية واعتماد اطر وطنية لعمل المؤسسات الاعلامية ، وبخاصة منها المؤسسات التي عملت لحساب الاحزاب والتيارات السياسية الدينية او المستقلة . في هذه البيئة ساد حراك اعلامي احادي تعمل كل مؤسسة فيه على شيوع النمط الثقافي الذي تتبناه ، آخذين بالحسبان ان الانماط الثقافية التي ايقظتها الاجواء الديمقراطية والتعددية الاعلامية تراوحت بين اقصى اليمين واقصى اليسار سياسيا ، فضلا عن انماط دينية ومذهبية منها ما كان متطرفا ، هذه اليقظة زادها نشاطا الضعف الواضح في الاعلام الذي يوصف بأنه اعلام الدولة الذي يفترض ان يغطي جميع مساحة البلاد ، وان ينطوي على مضمون وطني شامل يتسم بالقدرة على اجتذاب الجمهور من بقية الوسائل الاخرى ، فضلا عن المهارات المهنية الوافية  التي يجب ان يتحلى بها القائم بالاتصال ليتسنى له صياغة ذلك المضمون باشكال فنية مناسبة .

ان تفعيل الانماط الثقافية الفرعية الذي تجاوز حدوده بكثير اصاب الجسد الاجتماعي بتصدعات عميقة يمكن لتلك التصدعات ان تتعمق في حال لم نتأخذ الاجراءت الوطنية ، واولها اعادة المكانة اللائقة للثقافة الوطنية .

ثانيا ــ ضعف الذاتية الثقافية

من بين الاسئلة المهمة والتاريخية ذلك السؤال الذي يذهب الى كيفية الحفاظ على الذاتية الثقافية في عصر العولمة ، ذلك ان انتهاك السيادة الاعلامية عبر الاعلام العابر للقارات ، والرضوخ والايمان في الوقت ذاته لبعض من معطيات العولمة ومنها التعددية الاعلامية ، وتناثر المجتمع بين انماط ثقافية فرعية فعلتها التعددية من جانب وتراجع مشروع الثقافية الوطنية من جانب اخر، كل ذلك من شأنه التأثير في الذاتية الثقافية ، فالذاتية الثقافية او الخصوصية الثقافية كما يسميها البعض تقتضي بناء ثقافة وطنية تستلهم النبيل من قيم المرجعية الفكرية والدينية والتراثية ،ليتسنى لها تشكل الهوية ، لانه يتعذر الحفاظ على الذاتية بكل ابعادها من دون ان تكون هناك هوية جامعة مميزة لهذه المجتمعات ، لكن التعددية الاعلامية التي لم تضبط برؤية وطنية وتشريعات قانونية ، وعدم عناية المؤسسات الاعلامية بمشروع الثقافة الوطنية ، وترويجها للسطحي من قيم العولمة عبر محاكاتها للوسائل الاعلامية الغربية ، والاهتزازات القيمية التي اصابت المنظومة الثقافية العربية الاسلامية جراء هذه العوامل وغيرها ، وعدم بلورة رؤية استراتيجية واضحة في التعامل مع مسألتي المواكبة والمغايرة للعالم المتحضر من حولنا ، كل هذا اسهم في بعثرة الهوية التي جهدت اجيال عديدة من النخب العربية على تشكيلها على مدى اكثر من قرن ونصف القرن ، وتحديدا منذ بدأت تتبلور ملامح النهضة العربية . من ذلك نستشف ضعف الذاتية الثقافية راهنا ، والمجهول الذي لاتعرف طبيعته مستقبلا .

واذا كانت التعددية الاعلامية حالة حضارية لايمكن تجاوزها ، وان في  الديمقراطية خلاص المجتمعات العربية التي عانت الويلات من الانظمة الشمولية ، وان مواكبة الاخر ضرورة قصوى ، ومن الجهل ان تقتصر على معطيات التكنولوجيا ، بل يجب ان تمتد الى المستحدث من القيم ايضا ، فضلا عن تلك القيم الحتمية التي تفرضها التكنولوجيا ذاتها ، وان جهدا كبيرا لابد من بذله لتنقية الثقافة السائدة مما لحق بها من قيم وعادات واعراف بالية ، وان الواقع العربي والاسلامي الراهن فرض اهمية القيام بنظرة فاحصة لموروثنا واستنباط مفاهيم جديدة تغلق الابواب امام اولئك الذين تعكزوا على بعض من مفرداته لبناء منظومة ثقافية متطرفة دمرت الحاضر واغتالت المستقبل واشعرها ان بالامكان العودة بالمجتمعات الى الخلف ، كل ذلك يجعلنا ندرك اهمية الاجابة غير الانشائية على السؤال المطروح .

 

شارك مع: