أ.د جليل وداي حمود 

الوسواس ينير العتمة

 

لايمكنني وصف اية جهة تحارب الفنون وتعدها من بين الممارسات المشبوهة بغير التخلف ، ومثل هذه الجهات ما كان لأحكامها الغريبة ازاء الفنون ان تنتعش لولا توافر بيئة اجتماعية تتسع فيها مساحة التخلف وتضيق مساحة التنوير ، أرجو من البعض عدم المكابرة ومجافاة الحقيقة بقولهم : أن مجتمعنا بلغ من الثقافة والتعليم والوعي مراتب متقدمة تقترب مما وصلته المجتمعات الاخرى ، لذا فان الخطوة الاولى لتنمية حقيقية ترتقي بالمجتمع لمواجهة تحديات مرعبة تعترضه تنطلق من الاعتراف الجريء : بان مجتمعنا لم يتوافر على حصيلة ثقافية وتعليمية كافية ، فعلى مر العقود الماضية كانت منظومتنا التربوية والتعليمية تراوح مكانها ، ولم تحظ بعناية جادة من الحكومات المتعاقبة على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية ، فلعابها لايسيل للثمار الآجلة  ، لان نضوجها يتم في أزمنة غير أزمنتها ، فلا تخاف مخاطرها ولاتجني فوائدها ، الأمر الذي جعل المجتمع مرتعا لقوى وسلطات متخلفة واخرى طامعة وثالثة مضللة ورابعة مترددة ، واستمرار هذا الحال ليس من نتائجه سوى انهيار المجتمع وبالتالي الدولة ، ولعل جانبا من مظاهر الانهيار ما نحن فيه اليوم من كوارث ونوازل تطول حاضرنا ومستقبلنا. ولا اظن ان المصيبة تكمن في احتلال قوى ظلامية لبلادنا ، بل بتسلل روح الكراهية وثقافة الانتقام وعدم التسامح ورفض الاخر ،واغتيال الحريات الشخصية ،وفرض قناعات صارمة على عموم المجتمع وكأنها حقائق لاتقبل المناقشة ، والاستهانة بالقانون ، ومَنْ غير المدرسة مؤهل للمواجهة ؟.

من بين الحقائق المحزنة ان تتمكن هذه الجهات من تحشيد نظرة دونية ازاء الفنون ، وكأن المسرح قبو للدعارة ، والغناء مفسدة ،والرسم نجاسة ، والعاملون  فيها أبعد الناس عن الاخلاق ، وصار أهل الفن يجهدون لمواجهة هذا التيار الذي بدأ ينفذ حتى الى بعض النخب التي تجاري تلك الجهات اقتناعا بطروحاتها او مجاملة لابتساماتها او خوفا من سطوتها او مداراة لمكاسبها .

لا اقسى وأكثر تخلفا من جدل في بديهيات حسم الأمر فيها منذ قرون ، وأبسط البديهيات ان الحياة صحراء قاحلة بلا فنون ، وان الاذواق لن تهذب الا بالفنون ، وان الجمال في ثلاث بضمنها الفنون ، واي تعطيل للفنون تدمير لركن من اركان الحياة ،ندعو الى فن ملتزم لا اسفاف فيه ، فن ينمي الذائقة الانسانية ، ومثل هذا الكلام نريد له ان يصدر عن الجهات صاحبة السطوة في الواقع الاجتماعي ،ومغادرة الصمت عما يخرب حياتنا ، والابتعاد عن مقولات تتسم بالتعميم بأن الفنون تفسد الناس ، نريد دعما للفن الحقيقي ، وسنضم أصواتنا لأصواتهم في محاربة كل ما يخدش الحياء وينتهك الآداب .

يأتي التفكير في هذا الكلام بعد خروجي منتشيا من عمل مسرحي بعنوان ( الوسواس ) يتصدى لظاهرة الفساد في مجال يفترض ان يتحلى بأعلى قيم الانسانية ، والأكثر سعادة ان هذا العمل من انتاج اعدادية ثويبة الأسلمية في محافظة ديالى ، ولابد من القول ان العمل الذي حضره جمهور واسع وصفق له كبار الفنانين من أمثال غازي الكناني صاحب الدور الشهير ( فزع ) في مسلسل جرف الملح ، جاء بجهود فردية تستحق الثناء من مديرة الثانوية الاستاذة حذام خطاب ، وهي المدرسة الوحيدة من بين مئات المدارس في المحافظة التي تشارك  في يوم المسرح العالمي ، وهو ما فعلته العام الماضي بعمل يمكن وصفه بالرائع في حدود ما متوافر لمدرسة من امكانيات ، والأمانة تقتضي القول ان ما قدمته الطالبات كان أفضل بكثير مما قدمته جهات معنية بالفن المسرحي التي احبطتنا أعمالها أيما احباط ،  وقد نعذرها لمعرفتنا ببعض الاسباب وأولها صعوبة السباحة عكس التيار ، بالمقابل يحق لنا ان نسأل وزارة التربية ومديرياتها العتيدة : أين هو المسرح المدرسي ياسادة ؟ أتطلع الى شجاعة المسؤولين للاجابة عن سؤالي ، وليس الى كلمات ناعمة وبدلات راقية وأربطة عنق براقة ، التنمية يراد لها أن نشّمر عن السواعد والعقول ، يالحزني ان يأتي التنوير ممن نراهم صغارا ، بينما يجّمل الكبار العتمة

شارك مع: