التعددية الاعلامية وتنمية الشعور بالولاء الوطني

أ.د جليل وادي

لايمكن بأي حال من الاحوال التصدي للتحديات التي تتعرض لها البلدان ما لم يكن الولاء الوطني لدى مواطنيها عاليا ، ذلك ان تراجع الولاء الوطني يشير في جانب كبير منه الى ان المواطنين متشرذمون بين ولاءات اخرى كالطائفية والاثنية والعشائرية والمناطقية ، كما ان اعلاء المواطن من شأن الولاءات الفرعية التي يؤمن بها يعني ضمنا ان ذلك سيكون على حساب الولاء الوطني ، ما يفكك الدولة ويضعف من منظوماتها العاملة ، فضلا عن تشتيت الرأي العام وتباين اتجاهاته  ازاء الثوابت الوطنية التي يراد تعزيزها في النفوس .

واذا كانت الدولة تنظيم اجتماعي سياسي عابر للتنظيمات الاجتماعية الاخرى كالقبيلة ، فأن نجاحها مرهون بمدى تحول منظوماتها الى مؤسسات بما يبعد قراراتها عن الارتجال والتأملات والتحيزات وضغوطات القوى الاجتماعية والدينية والاقتصادية التي تنطلق اهدافها من مصالح ضيقة ، وهنا تبرز المواطنة بوصفها معيارا لتعامل تلك المؤسسات مع المواطنين على اختلاف قومياتهم واديانهم وطوائفهم وألوانهم ، ويشكل الولاء الوطني مقوما اساسيا من مقومات المواطنة ، بمعنى ان لامواطنة من دون ولاء وطني ، ذلك ان تبلور الشعور بالانتماء الوطني وجدانيا وعقليا لدى افراد المجتمع من شأنه حملهم على احترام القانون الذي يعد الضمانة الاكيدة للحصول على الحقوق والالتزام بالواجبات ، كما ان سيادة القانون تعكس هيبة الدولة وتشعر المجتمع بوجودها ، بينما يقلل ضعف تلك السيادة من شأن قيمة الدولة لدى المجتمع والاحساس بغيابها او عدم فاعليتها .

فالدولة قبل ان تكون كيانا اجتماعيا سياسيا هي قيمة عليا يتجلى وجودها بمدى تطبيق القانون وحدود احترامه والالتزام به من الافراد ، الامر الذي يحمل المواطنين الى الاحتماء بالقبيلة والطائفة وغيرها في حال ضعف تطبيق القانون . فضلا عن بروز ظواهر الفساد المالي والاداري وتغليب المصالح الخاصة على المصالح العليا للوطن ، والاعلاء من شأن الولاءات الضيقة على حساب الولاء الوطني ، ما يضعف الدولة وينهك قدراتها على مواجهة التحديات الامنية والاقتصادية والسياسية .

الاعلام بوصفه وكالة للتنمية

واذا كان الاعلام يعد من وكالات التنمية على اختلاف اشكالها ، فأن تنمية الولاء الوطني يشكل وظيفة من وظائفه العديدة على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية . ويكتسب الاعلام في هذا الاطار اهمية بالغة لما يمتلكه من ادوات فاعلة ومؤثرة في تشكيل اتجاهات الرأي العام ازاء المخاطر التي يتعرض لها المجتمع من خلال غرس روح الانتماء للوطن فيه.

وللاعلام تطبيقاته المختلفة على وفق النظريات التي سيرته بدءا من نظرية السلطة ومرورا بنظرية المسؤولية الاجتماعية ووصولا الى نظرية الحرية . وفي كل تطبيق من هذه التطبيقات يختلف الاداء الاعلامي قوة وضعفا . وتأتي التعددية الاعلامية بوصفها مظهرا من مظاهر الفضاء الديمقراطي ، اي تطبيقا لنظرية الحرية التي حققت نجاحات باهرة في بعض المجتمعات ، لكنها بالمقابل افرزت في مجتمعات اخرى انتكاسات مريعة ، ويرتبط ذلك بمستوى ونوع ثقافة الديمقراطية السائدة في تلك المجتمعات ، بضمنها ما يتعلق بالولاء الوطني . والحديث عن تأثيرات التعددية الاعلامية في هذا الجانب على مستوى التطبيق في العراق يقتضي بداية توصيف حدود الولاء الوطني السائد من خلال ظاهرتين على سبيل المثال لا الحصر .

حدود الولاء الوطني

ثمة ظواهر يشهدها المجتمع العراقي تشير الى ان الولاء الوطني يشهد تراجعات لايمكن التغاضي عنها ، ذلك ان هذه التراجعات لها تداعيات خطيرة منها ما يطال تمزيق النسيج الاجتماعي ، فضلا عن تهديد وحدة البلاد . ومن تلك الظواهر شيوع الفساد المالي والاداري في الكثير من مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات القائدة للبلاد ، ويؤكد الكثير من المعنيين تجذر هذه الظاهرة وتحولها الى مؤسسات يصعب اختراقها ويتعذر التصدي لها بالاساليب التقليدية بالرغم من وجود مؤسسات معنية بهذا الشأن كديوان الرقابة المالية ومفوضية النزاهة ومكاتب المفتشيين في الوزارات .

ان اتساع هذه الظاهرة يعني ان شريحة لايستهان بها من الافراد الذين يمثلون قادة هذه المافيات وادواتها والمتعاونين معها والجهات التي توفر الحماية لها ، قد تلاشى لديها الشعور بالولاء الوطني ، ما يتطلب التفكير بالامر ليس من باب التصدي القانوني فحسب ، بل لابد من تأمل عملنا الثقافي الذي تندرج تنمية الولاء الوطني في اطاره .

ومن بين الظواهر ايضا تبني شريحة كبيرة من الشباب للفكر المتطرف الذي يقف بالضد من الدولة المدنية التي نعمل على ترسيخ قوائمها في العراق ، وتمكن الجهات الارهابية من اقناع هؤلاء الشباب بمنظومة فكرية ماضوية تستهين بالحاضر وتدمر المستقبل ، بما جعل الشباب يمنحون ولاءاتهم لهذه المنظومة على حساب الولاء للوطن الذي امعنوا بتدميره ، والانقياد الغريب للجهات المتطرفة للقيام  باعمال عنف بصرف النظر عن خسائرها التي بضمنها حياتهم وحياة مواطنيهم .

وبالتأكيد ان لهذا الانقياد اسباب عديدة ، وجل تلك الاسباب نحن مسؤولون عنها ، واهمها فشلنا في تشكيل ثقافة مستنيرة لدى الشباب ، بما يوفر لهم الحصانة من الغزو الظلامي . ويأتي مفهوم الولاء الوطني عنصرا جوهريا من عناصر المنظومة الثقافية المفترضة ، فضلا عن كونه هدفا اسمى للاستراتيجيات الثقافية للدولة المدنية انطلاقا من ايمانها الراسخ بالمواطنة .

وعلى هذا فان توزع الشباب بين ولاءات طائفية واخرى وهمية كمحاولة بناء دولة تسترجع فيها آليات الماضي بصرف النظر عن سياقاتها التاريخية يكشف عن اوجه القصور في قدراتنا على بناء الولاء الوطني الذي ينشغل بالحاضر استعدادا للمستقبل ، ذلك المستقبل الذي لم يتبلور بالقدر الكافي في الوعي العربي بضمنه العراقي .

 ومع ان التغليف الطائفي للقضية الوطنية يتوافر من خلاله جانبا من التصدي للتحديات واسترجاع ما جرى استلابه ، الا انه سلاح ذو حدين ، اذ كثيرا ما تلجأ الجهات المعادية الى الاسلوب ذاته في الصراع الدائر ، وبالتالي فان حصانة الشباب وحماية الوطن تكمن في تعزيز الشعور بالانتماء للوطن وتعاليه على الانتماءات الاخرى من دون التقليل من قيمتها بوصف تلك الانتماءات متجذرة في المجتمع وتمتلك تاريخا طويلا وتحظى باحترام اجتماعي ، ولا تتمثل الخطورة في وجودها بل في توظيفاتها السياسية التي غالبا ما تكون على حساب الولاء الوطني ، بخاصة في اوقات الصراعات والازمات التي تشهدها الدول وبالذات في المجتمعات التي لم تتوافر على قيم حضارية مستنيرة وتحصيل تعليمي راقي .

تعددية اعلامية في اجواء ساخنة

لاشك في ان التعددية الاعلامية تعد المظهر الابرز في التحولات الديمقراطية ،وهي انعكاس للتعددية السياسية والتنوع المجتمعي ، وهي اذ تجسد حقوق القوى السياسية والمكونات الاجتماعية الفكرية والثقافية والدينية وممارسة حريتها في التعبير عن اراءها ازاء الوقائع والقضايا الوطنية ، الا انها في الوقت نفسسه تنطوي على العديد من المثالب في البلدان التي تشهد صراعات وازمات ، بخاصة عندما تكون الدول في طور التحول من نظام سياسي الى اخر ، كما هو حاصل في بلادنا التي  يراد لها الانتقال من النظام الشمولي الى النظام الديمقراطي .

وبدءا لابد من القول ان التعددية الاعلامية لاتعني ان الحرية الاعلامية قد تحققت ، وان النص عليها في الدستور والقوانين المنبثقة عنه لايعني انها محمية من الانتهاكات ، ذلك ان الحرية الاعلامية لاتتحقق الا بسيادة القانون في الواقع.

وفي العراق الذي يشهد ثلاثة انواع من الصراع : اولها صراع مع قوى ظلامية ارهابية تعتمد استراتيجيات فكرية وعسكرية في صراعها مع الدولة ، وثانيهما صراع طائفي اججته قوى دولية واقليمية مستندة الى قوى محلية تميعت معها طمعا في الوصول الى السلطة ورسخته ممارسات سياسية غير محسوبة بما قاد الى انقسام مجتمعي بدا ظاهرا للعيان في السنوات الاخيرة ، وثالثها الكفاح من اجل بناء دولة المؤسسات .

في هذه الاجواء الساخنة سياسيا واجتماعيا لايمكن للتعددية الاعلامية العراقية ان تعبر عن هم وطني الا في حدود ضيقة جدا ، ذلك ان الاعلام المهيمن يتبع الى قوى حزبية ودينية لها مصالح وايديولوجيات ليست بالضرورة متوافقة مع بعضها ، فضلا عن قناعتها غير المعلنة بأنها معنية في هذه المرحلة بتشكيل ولاءات فرعية تجدها ضرورية للغاية لتوفير الدفاعات اللازمة خلال صراعها الدائر مع القوى الاخرى ، بخاصة ان البيئة الاعلامية تفتقد للضوابط والتعليمات والقوانين التي تقنن الحركة الاعلامية بالشكل الذي يجعل ثمار عملها تصب في مجرى المشروع الوطني ، وبما يبعدها عن التعاطي مع الموضوعات التي من شأنها اثارة النعرات الطائفية وبث روح الكراهية بين المكونات الاجتماعية ، او التمهيد بشكل علني او غير ظاهري لتدخلات القوى الاجنبية بالشأن الداخلي .

ان التعددية الاعلامية غير المنضبطة تعمل على اشاعة مشاريع ثقافية ضيقة على حساب المشروع الثقافي الوطني الموحد للمجتمع ، وهذا لايعني الوقوف بالضد من الترويج لثقافة التنوع الاجتماعي والقومي الذي يتحلى بها المجتمع العراقي ، ولكن النجاح الباهر يكمن في صناعة منظومة ثقافية وطنية مواكبة للاخر وقادرة على استيعاب التنوع الثقافي ، وتجد فيها الثقافات الفرعية فضاء مناسبا للتعايش الخلاق ، بما يجنب هذه المنظومات الثقافية التقاطعات الحادة والمتناقضة التي تنتهي الى تنمية ولاءات بعيدة عن الوطن .

شارك مع: